الجزء المنسي من كارثة الطينطان!
سيد الأمين ولد باب
|
سيد الأمين ولد باب:أستاذ sidel [email protected]
على هول كارثة حقيقية فظيعة استيقظ سكان مدينة الطينطان فجر الثامن من أغسطس سنة 2007 وقد حاطت بهم المياه من كل جانب ، غمرتهم ،حملتهم ولم تغادر،لا يفكرون في غير النجاة . خرجوا وقد خلفوا وراءهم تحت رحمة المياه كل ما أنجزوا طوال سنين العمر من دور السكن وكامل معداتها ، ومن حوانيت ممتلئة بمختلف أنواع التجارة ، ومن واحات نخيل ممتدة على مسافة أميال ، ومن مكتبات عامة وأهلية زاخرة بنفائس الكتب والمجلدات في مختلف العلوم ، تعالت الأصوات في داخل الوطن وخارجه ،وتناقلت وسائل الإعلام: المقروءة والمرئية والمسموعة الخبر بالصوت والصورة ، بلغت القلوب الحناجر سواء منها المقيم والمهاجر .
ضاع كل شيء في المدينة ، وربما ضاع الأمل و ضاعت الطمأنينة ، كل يقلب يديه ينظر عن يساره وعن يمينه لا يجد من أو ما يؤويه، يفترش الأرض ويلتحف السماء حتى بادرت ، منظمات الإغاثة العالمية والدول الصديقة بتلبية نداء الدولة ، بل وبادرت كلها أو بعضها فور سماعها الكارثة بالإعلان عن مساعدتها.
كثرت المساعدات وتنوعت ،وتعددت الدراسات الميدانية وتخصصت في مختلف أوجه الحياة في المدينة : اقتصادية واجتماعية وجغرافية.
قيمت الأضرار وقدرت بميآت الملايين ، فدل ذلك على أن المصاب جلل وأن الكارثة حقيقية ، لكن الخجل المعيق ، والصمت العميق غطيا على جانب آخر من الكارثة ، ووجه من أوجه المعانات، إن لم يكن من أكثرها أهمية وخطورة ، فانه ليس أقلها شأنا حتى لا تجد له ذكرا فيما يذكر.
فهذه المدينة وإن كانت تجارية بالدرجة الأولى ،فإنها ثقافية أيضا تزخر بالمكتبات الأهلية العامرة بالتآلف في مختلف العلوم ، ضاعت هي الأخرى ،لا ذووها استطاعوا ذكرها خجلا وسط صيحات طغى عليها طابع المال والعقار، متناسين أن العلم هو المال حقيقة وهو العقار، ولا مستفيد على ما يبدوا من هذه المكتبات غير أهلها يحز في نفسي ضياعها فأبلغ عنها ، لكن لا جهة وطنية رسمية أو غير رسمية مهتمة بالثقافة ندبت حظها العاثر لكشف حقائق في هذا الميدان.
مكتبات عديدة تضررت منها علي سبيل المثال مكتبة المصطفي ولد عباب في (أتو يميرت) ومكتبة أتقان ولد السنهوري في (الجديدة) ، و
مكتبة أهل الطالب ولد أعل ـ نموذجا ـ في ( دمبرى1) بهذا المنزل الجميل الحصين ،إحدى المكتبات المتضررة، كانت غنية بالمجلدات ، وأمهات الكتب والتآلف القيمة في القرآن وعلومه ، والفقه وفروعه ، واللغة ومعاجمها، والأدب وفنونه ، والسيرة النبوية ومحامدها ، والتصوف وطرقه ،فقد منها العديد ، وأكثر ما بقي منها لم يعد صالحا للاستفادة منه لتصلب أوراقه بعضها على بعض، يحكي مشهدها تفاصيل الكارثة الحقيقية والمصاب الجلل حقا
حسراتهم وأسفهم على ضياع مكتبتهم الجليلة أشد عليهم من ترك دارهم الجميلة للضياع، لكن هذا الشعور لم يجد طريقه إلى الظهور لتوقع عدم التجاوب معه.
إن عدم الاهتمام بالعلم لا يورث إلا الجهل، ولا يورث الجهل إلا التخلف والفقر; تلك هي الكارثة وذلك هو الضرر الذي لا ينتهي بانقطاع أسباب الكارثة، وبتعويض ما ضاع; بل حتى تفنى أعمار الرجال في طلبه وإن الله ليغضب لأنبيائه ،والعلماء ورثة الأنبياء وخير موروث عن العلماء هو العلم،وبالتالي فعدم الاهتمام بالعلم هو سبب وأصل كل الكوارث والعكس للعكس سبب، فقد تناقلت الأوساط في مدينة الطينطان أن مصحفا شريفا سقط على صبي في مرحاض ،ومنعت صاحبة المرحاض تكسيره لنزع المصحف وتطهيره ، فلم تمضي 24ساعة حتى بلغت الكارثة ذروتها. لما جاء الماء من بين أيديهم ومن خلفهم ومن فوقهم ومن تحتهم ـ كما يقولون ـ ليطهر الله ما لم تشأ العباد تطهيره .
ليس هذا من باب بحث العامة عن أسباب قريبة من أذهانهم بفعل العادة أو بفعل الإيمان.بل إنهم يرون الحقيقة تتكشف أحيانا بفعل قدرة خارقة لا سبيل إلى فهمها إلا من خلال الإيمان ،وذلك عندما لا تكون الأسباب الموضوعية قادرة على تفسير مختلف جوانب المسألة.
فالسد الذي أقام الوالي في المدينة والذي سبب الكارثة ـ كما يرى بعض سكان الطينطان ـ لا يكفى لتفسير ظاهرة الغمر هذه بمختلف تفاصيلها ، في الوقت الذي تشفي فيه حكاية المصحف الغليل في التنبيه إلى خطورة عدم الاهتمام بالعلم ،وفي تأويل النسيان الذي حصل للجزء الثقافي من الكارثة ‼.
إن إغفال هذا الجانب المهم من حياة المدينة ،والذي يتحمل أهالي الطينطان الجزء الأكبر منه، وتتحمل الدولة منه جزء; لغياب البحث فيه وتقييم الأضرار التي لحقته ، مهما قلت بالمقارنة مع الأضرار الأخرى ،حتى وإن كان لمجرد لفت الانتباه ومنح القيمة و الاعتبار للجانب الثقافي الذي يفتقر إلي ذلك الآن أكثر من أي وقت مضى، بسبب غياب المنطق وطغيان التقليد في كسب المال والأعمال،والانبهار بذلك ، لدليل واضح وجلي على أن المجتمع الموريتاني لا يمسك الخيط من رأسه ، بل لا يسلك طريق الرقي والازدهار علي الإطلاق .
وذلك هو السر في بقاء الفقر والتخلف في بلدنا رغم كثرة الموارد، وأن الدولة رغم القروض والمساعدات واستنزاف خيرات البلد الكثيرة لم تحقق تقدما في ذلك ;لأن تلك الجهود بذلت للسيطرة علي مجتمع متخلف ـ وأحيانا بالسير خلف رغباته ـ لا لإصلاحه،وتلاحق الخطط التنموية: الاستعجالية والإستراتيجية التي تقوم بها هي: من ذلك القبيل وإن لم يكن قصدا ـ فنسمع دائما جعجعة ولا نرى طحينا، كل ذلك لأن الدولة لا تتكلف كبير عناء لنهج طريق العلم ، لعدم تفعيلها قانون إجبارية التعليم ، وعدم وضعها حدا للتسيب المدرسي في سن مبكرة،وعدم رفع شعار العلم أولا، مكتفية بتوفير كل مستلزمات التعليم من: مدارس ومعدات ومعلمين في كل مكان ، ولكن مع تخيير ضمني وإهمال ظاهر، تبدو معه غاية كل تلك الجهود مقتصرة على إرضاء الناس ،وكسب الرأي العام ـ وكأن الدولة(النظام) على دين الرعية(الشعب)ـ الذي يبدوا أنه لا يوولي اهتماما كبيرا للشأن الثقافي ،حيث غاب عن بصيرة الدولة واهتمامها بكارثة الطينطان ، لذلك السبب أو لأن الموضوع لا تجلب إثارته أموالا كثيرة ، أو أن الكارثة أو الفاجعة تنسي الناس (الدولة) كل ما هو ثانوي (الأضرار الثقافية) لما هو أهم (الأضرار المالية والعقارية) ، وإلا فلماذا لا تأخذ الأضرار الثقافية التي لحقت بالمفتشة العامة للتعليم والمكتبات الأهلية في مدينة الطينطان نصيبها من الاهتمام و الإعلام ؟!.
تاريخ الإضافة: 23-07-2008 18:28:52 |
القراءة رقم : 1093 |