انتصار الحكمة والعقل
اسلم بن سيد المصطف
|
لا يختلف المراقبون السياسيون والمحللون الاجتماعيون في أن الأزمة التي مرت بها بلادنا في الأسابيع الماضية، تعتبر من أشد الأزمات وأخطرها.
والخيارات التي كانت متاحة لحلها –قبل استقالة الحكومة- محدودة جدا. وأهونها مؤد بالبلاد إلى التهلكة، موقع لها في دوامة لا نهاية لها، من اضطراب الأحوال، وبذل الأموال، ونهش الأعراض، وتهديد الأمن، وانعدام الطمأنينة.. في فترة زمنية يعمها القحط والغلاء، وتنتشر فيها الأوبئة و.. والأدواء؛ ذلك هو حل البرلمان، واللجوء إلى انتخابات جديدة. ولا يخامر أحدا شك فيما يوقع فيه ذلك جميع المسلمين في هذه البلاد من المشقة البالغة.
وهي مشكلات يوجب الشرع على من ولي من أمور المسلمين شيئا أن يبتعد عنها تجنبا للتعرض لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة في قوله عليه الصلاة والسلام: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به".
فالحمد لله إذن على تحكيم العقل والحكمة؛ وهو تحكيم ما كنا نظن برئيس الجمهورية غيره، وهو ما عبر عنه في مقالنا الماضي جازمين بصحة مدلول قول الله جلت قدرته: {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا} والحمد لله على انتصار بطانة الخير على بطانة السوء؛ فقد ثبت في الحديث الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بعث الله من نبي وما استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه؛ فالمعصوم من عصم الله تعالى" (صحيح البخاري). فالحمد لله الذي حفظ رئيس الجمهورية من ارتكاب هذه المشقة العظيمة، في هذه الفترة الزمنية الصعبة؛ فله ولبطانته الخيرة وافر الأجر إن شاء الله؛ خصوصا وأننا مطلعون جميعا -من خلال وسائل الإعلام- على الضغط الذي تعرض له، وعلى ما رمي به من "عجزه" وإذلال" حملا له على اختيار مركب الشدة، واستخدام السلطة وإظهار القوة..
والقوة الحقيقية هي تلك التي يحكمها الرفق، وتسودها الحكمة؛ بعيدا عن السفه والطيش.
وللتذكير فإن الحديث السابق (حديث البطانة) يدل -من بين ما يدل عليه- على أن بطانة السوء لا ينجو منها حاكم وأن عصمة الله سبحانه وتعالى هي التي تحفظ منها.
وبطانة السوء قد تكون من بين المسؤولين المهنيين المفترض فيهم أن يكونوا أمناء ناصحين، وقد تكون من بين الزائرين والطائفين الذين يدخلون على الرئيس في خلوته، ويفضون اليه بما يوهمونه أنه خير ونصح. وهو في حقيقته سم ناقع، ومكر خادع، وأكثر المتمرسين في ذلك الفاعلين له قوم مردوا على الحركات السرية والمناورات السياسية يغلفون لغتهم بالوطنية والديمقراطية، وهم خبراء في البلبلة والزعزعة.. فالشحنة التي يقذفها هؤلاء من "النصح" تحمل من الشر ما تنوء بحمله الجبال وتعجز عن مقاومته النفوس العظام. فلا يغادر هؤلاء الحرباويون المسؤولين إلا بعد أن يتركوهم صورة صادقة، ومثالا ماديا حيا لقول الله تعالى: {استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون}.
وعودة إلى موضوع من يحق له أن يمارس الشأن العام (السياسة) أقول إنني لم أقف على نص من الوحي أو رأي فقهي يمنع القوات المسلحة من ممارسة السياسية؛ وقد تكون الديمقراطية المؤسسة على ثقافة الغرب وتاريخه السياسي مصدر ما هو سائد من تلك المفاهيم؛ لأن الفقه الإسلامي يقصر الممارسة السياسية على الآلية المعروفة عند الفقهاء بأهل الحل والعقد، وأول من يدخل في هؤلاء العلماء وأهل الشوكة ووجوه الناس. وحتى لو عدنا إلى الممارسة الغربية للديمقراطية لأدركنا أن القرارات السياسية التي يتخذها الغرب لا بد أن تكون متكئة على دراسات موضوعية وآراء فنية من مختلف أجنحة وقطاعات القوات المسلحة.. ولا ينازع المؤرخون في أن أكثر الأدوار التاريخية التي شهدها الغرب هي تلك التي لعبها الجنرالان اللذان قادا الجمهورية الفرنسية والولايات المتحدة الأمريكية في القرن الماضي..
على أن من أبجديات مفاهيم الديمقراطية الحديثة، ومقتضيات مقاصد الفقه الدقيقة أن لا تسند أمانة تسير شؤون الأمة لمن خالف أغلبيتها في نهجها العامة، وصارعها في برامجها السياسية، ومرشحيها الذين اختارتهم وائتمنهم؛ وإلا فلماذا المنافسات السياسية إذن والمنازعات الديمقراطية.. صحيح أنه عندما يكون البلد في وضع شبه استثنائي يحتاج فيه للإجماع الوطني -كحالة الحرب وأوضاع الكوارث العامة ونحو ذلك- فإن إشراك الجميع وتكاتف القوى يكون أمرا رشيدا؛ وفي هذه الحالة ينبغي أن يتم اللجوء إلى الخصم السياسي الأكثر تمثيلا والأكفأ مهنيا؛ ولا معنى للجوء لمجموعة صغيرة لا يحتاج لأصواتها، ولا تشتهر بخبراتها ولا تخفف من وطأة الشد والجذب الديمقراطيين.
وعلى أية حال فنحن لا ينبغي أن نأخذ ديمقراطية الغرب حرفا بحرف؛ ففي تراثنا وثقافتنا كفاية لنا.. ولا يمنع ذلك الاستفادة من تجارب الآخرين..
ولا يساورني شك في أن حكمة رئيس الجمهورية ستحتوي ذلك كله، وتجنب هذا الشعب الضعيف الفاقد لكل مقومات البقاء، من حيث انعدام البنى التحتية والهياكل الإدارية القوية، وثقافة الحكم والدولة.. وغير ذلك -تجنبه- ارتكاب المشقات وأخطار المنازعات والصراعات..
والحافظ هو الله.
تاريخ الإضافة: 05-07-2008 18:51:36 |
القراءة رقم : 992 |