كلمة أخرى عن الأزمة... " العجوز وسلة البيض"
محمد الأمين بن الفاظل ـ رئيس مركز "الخطوة الأولي " للتنمية الذاتية (خيري)
www.autodev.org
وقفت العجوز أمام الطابور الطويل ثم سألت :
ـ هل يباع البيض في هذا المحل؟
لم يشك أحد في براءة السؤال ، فقد كانت تكفي نظرة خاطفة لثوب العجوز الرث ولسلة البيض التي تحمل للجزم ببراءة السؤال .
ـ نعم هنا يباع البيض ، وهذا مكاني أتنازل لك عنه : هذه الإجابة نطق بها العديد من المتواجدين في الطابور ، فقد كان الجميع يريد أن يسرق ابتسامة من هذا اليوم الطويل والكئيب والذي يجد فيه عشرات صغار الموظفين أنفسهم مجبرين مع نهاية كل شهر لقضاء ساعات مملة في طابور طويل قبل الوصول إلي الشباك لسحب رواتبهم الهزيلة.
تنازل الجميع عن مقدمة الطابور للعجوز، واتنظر الجميع بفارغ الصبر رد عامل البنك عندما تطلب منه العجوز أن يبيعها بيضا .
لكن العجوز ـ عندما وصلت إلي الشباك ـ أخرجت شيكا ووقعته ثم قدمته لعامل البنك الذي صرف لها راتبها .
حركة مثيرة خدعت بها عجوز عشرات الموظفين الصغار .
تذكرت هذه القصة من جديد وأنا أحاول أن أرد علي بعض القراء ممن اتصل بي عبر الهاتف ليقول لي بأني أخطأت ـ عكس مقالاتي السابقة ـ في رسالتي العاجلة التي كتبت للعقيد في الأيام الأولي من هذه الأزمة .
بداية أقول بأن الشخص الوحيد الذي لا يخطئ هو الشخص الذي لا يعمل ، وأنا في هذا المقال لست هنا لأدافع عن هذا الخطأ وإنما لأجيب علي طلبات أخري لبعض القراء ، خاصة ما يتعلق منها برسالة " العقيد " أو ما يتعلق منها بضرورة كتابة مقال يقدم موقفا شاملا من كل أطراف هذه الأزمة وعدم الاقتصار علي رسائل محددة موجهة إلي جهات محددة .
مع بداية الأزمة كنت قد قرأت في مواقع وصحف وطنية أن " العقيد " قد سافر إلي ايرلندا لمتابعة دورة في الإنجليزية !
ربما تكون " دورة الإنجليزية " ك " سلة البيض " وربما يكون العقيد ذكي جدا كالعجوز وربما أكون أنا قد وقعت ضحية لذكاء خارق كصغار الموظفين وبالتأكيد فلن أكون أنا الضحية الوحيد إذا ما كان " العقيد " يريد أن يعود إلي القصر بالطريقة المثيرة التي وصلت بها العجوز إلي شباك البنك .
رسالتي للعقيد كانت واحدة من رسائل عاجلة ثلاث كتبتها ـ علي عجل ـ مع بداية هذه الأزمة لأطراف كنت أعتقد ـ ولم أزل ـ أنها تملك أهم مفاتيح الحل .
أول هذه الرسائل كتبتها لرئيس الجمهورية وطالبته فيها ـ من بين أمور أخري ـ أن لا يكون طرفا مباشرا في هذه الأزمة ، حتى ولو كان هناك من يستهدف مؤسسة الرئاسة نفسها .
فالرئيس ـ خاصة في بلد متخلف كبلدنا ـ يجب أن لا يظهر لعامة الشعب وهو في صراع مع بعض " مرؤوسيه " فقد كان من الأسلم أن تظهر هذه الأزمة وكأنها صراع بين حكومة ونواب حتى ولو كانت في حقيقتها غير ذلك وحتى ولو كان من يديرها فعلا هو الرئيس نفسه .
ولقد طالبت الرئيس أيضا أن يقلل من أسفاره لأن البلد يعيش أزمة خطيرة وهو ما لم يحصل ، فقد سافر الرئيس إلي مصر فتعقدت الأزمة أثناء غيابه وسافر إلي إسبانيا فازدادت الأوضاع تعقيدا .
صحيح أن بعض الأزمات قد يتم التغلب عليها من خلال تجاهلها كالأزمات الصغيرة والمحدودة وقد يكون السفر إلي الخارج من حلولها ، أما أزمتنا اليوم فهي أشد تعقيدا من أن تحل بالأسفار خاصة بعد أن اعترف الرئيس في خطابه التهديدي الأول بوجودها .
فالأزمة التي نريد حلها من خلال تجاهلها يجب أن لا نعترف أصلا بوجودها .
ثاني هذه الرسائل خصصتها لزعيم المعارضة والذي ذكرته فيها بمقولته الشهيرة التي ترفض ممارسة العمل السياسي علي من يلبس زيا عسكريا وهو ما يعني أن التحالف مع ساسة بالزى العسكري لإضعاف خصوم بزي مدني هو كذلك من الأمور التي تتنافي مع روح الديموقراطية .
أما ثالث هذه الرسائل فقد كتبتها للعقيد لأسباب عديدة منها أن هناك مجموعة من النواب يقال إن المجلس العسكري هو من أوصلها للبرلمان وهي الآن بلا رأس ولا تقبل إلا برأس من المجلس العسكري .
كتبت للعقيد ليستغل هذه الفرصة لأنه من الأفضل للبلد أن يقود هذه المجموعة عسكري يكون علي استعداد كامل لأن ينزع بزته العسكرية بدلا من أن يقودها من لم يزل يفتخر برتبه العسكرية التي لم يصل إليها غيره .
وكتبت للعقيد لأنه ليس في عجلة من أمره للعودة إلي القصر ـ هكذا يبدو ـ وهو علي استعداد لأن ينتظر حتى تكتمل السنوات الخمس عكس غيره ممن يريد أن يحرم الرئيس الحالي من سنواته الخمس .
وكتبت له لأنه لم يزل يحتفظ بعلاقات جيدة مع كل أطراف الأزمة ولأنه أيضا ومنذ أن ترك القصر لم يظهر بشكل مباشر ـ علي الأقل ـ في الصراعات التي تدور بين نخبنا السياسية .
وكتبت له لأنه هو الرجل المناسب ، إن سمح له بالتقاعد، الذي يستطيع أن يؤثر علي مجموعة حجب الثقة التي فاجأت الجميع بتلاحمها وطولنفسها وبإستعدادها للتضحية من أجل شئ لم تستطع حتي ،ورغم هذا كله فأنا لا أنكر بأني ربما أكون قد وقعت ضحية ل "دورة الإنجليزية " كما وقع آخرون ضحية ل "سلة البيض " .
وقبل أن أترك العجوز لحالها لا بد أن أقول أيضا بأنه قد يكون من بين " المصلحين الجدد " من هو بذكاء "العجوز" التي ظهرت في البداية بغباء خارق ثم فاجأت الطابورـ عندما وصلت إلي الشباك ـ بذكائها الخارق .
من يتابع اليوم تحرك " المصلحين الجدد " وهم في طريقهم إلي شباك القصر أو قاعه لا يمكن أن يصفهم بالذكاء لأن كلفة هذه الرحلة قد تكون باهظة وباهظة جدا .
فمن يريد أن يشكل محكمة سامية قادرة علي محاسبة وعزل أعلي سلطة في البلاد لن يكون في المستقبل قادرا علي أن يحمي نفسه أو يحمي بعض العسكر أو بعض النواب والشيوخ من أن يحاسبوا ويعزلوا .
كما أن هذه الأزمة قد تسبب في ترك بعض ـ إن لم أقل جل ـ "المصلحين الجدد " لمقاعدهم النيابية إلي غير رجعة .
فلماذا يصر " المصلحون الجدد " علي خوض هذه المعركة التي ستكون فيها لحظة الانتصار بالنسبة لهم ـ إن هي تحققت ـ هي لحظة الكارثة التي ستقضي نهائيا علي الرأس الذي يحركهم ؟
لن يكون هناك رئيس ـ كما قلت في مقالي الرابع عن هذه الأزمة ـ أكثر طيبة وكرما ـ مع الرأس المحرك لهذه الأزمة ـ من الرئيس الحالي حتى ولو بحثوا عنه في القارات الخمس لا في النيجر لوحده .
ربما يكون في نية " المصلحين الجدد " عندما يصلون إلي شباك القصر أن يفاجئوا الطابور بحركة مثيرة ـ لم تكن في الحسبان ـ تنجيهم من هلاك محقق .
ومما يرجح هذا الاحتمال هو كون " المصلحين الجدد " ليسوا بالأغبياء قطعا ويكفي دليلا علي ذلك أنهم استطاعوا في وقت وجيز أن يتحولوا من مفسدين هم آخر من ودع "الرئيس المخلوع " إلي مصلحين هم أول من خاض أول معركة ميدانية ضد رموز الفساد كان من أبرز نتائجها أنه أصبح من الصعب جدا تعيين أي رمز من رموز الفساد وزيرا بما في ذلك رموز الفساد الذين خاضوا هذه المعركة وهم في صف "المصلحين الجدد " .
لقد اختطف " المصلحون الجدد " ـ ببراعة نادرة ـ راية محاربة الفساد من أيادي "المعارضة المسكينة " التي كانت قد ضحت ـ بكل أطيافها ـ في زمن كانت تصعب فيه التضحية من أجل محاربة الفساد ، والتي هي اليوم عاجزة ـ وبكل أطيافها ـ عن أن تخوض حربا لها أثر ميداني ضد الفساد رغم أن كل الأسلحة اللازمة لهذه الحرب ـ التي لم تعد صعبة ـ هي الآن متاحة للجميع .
لم تعرف المعارضة كيف تقطف ثمار نضالها واختارت أن تنقسم علي نفسها لدرجة أصبح فيها مقر حزب " حاتم " هو المقر الوحيد ـ بسبب "الخلافات الثنائية " ـ القادر علي أن يحتضن ـ قبل الانشطار الأخير ـ أحزاب المعارضة الخمسة .
بعض القراء يعرف جيدا كيف يطرح سؤالا حرجا تكاد تستحيل الإجابة عليه : ما هو موقفك من كل أطراف الأزمة ؟
المشكلة أنه في هذه الأزمة يوجد رئيس دولة طيب جدا ويحب هذا البلد جيدا ونواياه حسنة ولكنه لم يستطع حتى الآن أن يحول هذه النوايا الطيبة إلي واقع ميداني نلمسه في واقعنا المعاش .
صحيح أنه هناك بعض الجوانب التي تحسنت كثيرا (الوحدة الوطنية ، الملفات الإنسانية ، روح التشاور والانفتاح علي الغير ، التوجه الإسلامي ....) لكن المقلق حقا أنه لم تظهر حتى الآن إرادة جادة لمحاربة الفساد وإذا كان بإمكان الرئيس أن يؤجل هذه الحرب ويجعلها ثانوية فإن الأمر بالنسبة لنا يختلف كثيرا نحن ضحايا الفساد ممن يبحث ومنذ سنوات عديدة عن وظيفة ويناضل يوميا من أجل أن يحصل علي تذكرة باص أو وجبة طعام أو حبة دواء .
لقد كتبت للرئيس كثيرا عن هذا الموضوع ولقد حدثته في "الفرصة اليتيمة " التي قابلته فيها عن وجه من أوجه الفساد الذي نعاني منه ومن المفارقات الغريبة أن هذا الموضوع قد ازداد تعقيدا بعد هذه المقابلة رغم وعد الرئيس بالاهتمام به .
في أوقات كثيرة نغمض أعيننا عن بعض التجاوزات التي تحدث بشكل يومي في الإدارة رغم أن الرئيس يؤكد دوما بأن الإنجازات التي حققتها الحكومة لم تجد من التغطية ما تستحق .
سأقدم هنا وبشكل مختصر جدا بعض " الإنجازات " الحكومية التي قُدِّمَت لنا والتي كنا شهودا عليها في الأسبوع الماضي .
نحن في " الخطوة الأولي " وبإعانة إلهية ـ ليس لنا تفسير غير ذلك ـ قد استطعنا في عامنا الأول أن نحقق الإنجازات التالية :
في مجال التعليم قدمنا دروس تقوية ل200 طالبة لمدة 10 أشهر مع تدريب ميداني علي العمل الاجتماعي والخيري والمدني .
في مجال التشغيل والدمج قدمنا دورات مهنية لصالح 30 رب أسرة (15رجلا و 15 امرأة ) مع دورة في الفرنسية لمدة 3 أشهر لصالح 15 حامل شهادة .
في مجال الصحة قدمنا بعض الدورات الصحية منها دورة لمدة 4 أشهر في الإسعافات الأولية لصالح 40 طالبة منهن 14 حصلت علي شهادة منقذ أولي المعترف بها عالميا منهن من ساعدت في إنقاذ حياة بعض المرضي .
في مجال التوجيه الإسلامي قدمنا دورة نسائية متميزة في تجويد القرآن وحفظه لمدة 11 شهرا .
وفي مجال محاربة الفقر وحماية البيئة قدمنا فرنا بالطاقة الشمسية نال إعجاب رئيس الجمهورية وهو الآن بيد خبراء من الهند لتجربته مع بعض أسر العائدين في "بوكي " وذلك لمعرفة نواقصه من أجل تصنيع نموذج منه يلائم خصوصيات المطبخ الموريتاني .
في حفل الاختتام الذي تم في الأسبوع الماضي تعاملت كل الإدارات بشكل سلبي تماما مع هذا الجهد الرائد باستثناء وزيرة المرأة التي قدمت جوائز رمزية للمتفوقات والتي وعدت بحضورالحفل وهو ما تعذر يوم الحفل لسبب لم يتم توضيحه.
والمشكلة أيضا أنه في هذه الأزمة توجد مجموعة من النواب والشيوخ ورغم أن لها مآرب أخري في حربها ضد الفساد إلا أنه لا يمكننا ـ نحن ضحايا الفساد ـ أن نقف ضدها في حربها المعلنة ضد الفساد حتى ولو كان المستهدف هو رمز واحد من آلاف الرموز وحتى ولو كان من يستهدفه هو رمز آخر من رموز الفساد .
ونحن سنكون أيضا مع أي محارب جديد يريد أن يبدأ حربا جديدة ضد أي واحد من رموز الفساد ممن يخوض اليوم حربا ضد مفسدين آخرين .
لن نتخلف عن أي حرب ضد الفساد مهما كانت أسبابها ودوافعها في ظل غياب أي حرب حقيقية وشاملة ضد الفساد يخوضها من كان من المفترض عليه أن يخوضها
والمشكلة أنه في هذه الأزمة وجدنا أنفسنا أمام معارضة لا أحد يشكك في رغبتها في الإصلاح ولا أحد كذلك يخفي عليه مدي عجزها عن القيام بأي مبادرة في هذا المجال وذلك بعد أن انقسمت علي نفسها بسبب خلافات شخصية ومصالح آنية .
موقفي من هذه الأزمة حددته بالنظر إلي أمرين اثنين : أولهما مصالح الفئة المستضعفة من هذا البلد تلك الفئة التي أنتمي إليها والتي كنت قد وعدت الرئيس الحالي في أول رسالة أكتبها له بعد التنصيب مباشرة أن أسمعه أنينها ـ كما هو ـ بدون زيادة كما يفعل البعض وبدون نقصان كما يفعل البعض الآخر وثانيهما هو حماية هذا النموذج الديمقراطي الذي سلط الأضواء علي هذا البلد الذي عُرف بكثرة إخفاقاته في الميادين كلها .
موقفي من هذه الأزمة ألخصه في ثلاث نقاط هي :
1ـ أبارك كل قرار أو موقف يتخذه رئيس الجمهورية من أجل حماية مؤسسة الرئاسة أو من أجل تعزيز و ترسيخ مكتسباتنا الديموقراطية .
2ـ أرحب بكل رصاصة تطلق في أي وقت ومن أي مكان ضد أي مفسد بغض النظر عن من أطلقها وبغض النظر عن دوافعه لإطلاقها .
3 ـ أثمن كل المساعي التي تهدف إلي جمع شمل المعارضة من جديد وذلك حتى تكون قادرة علي أن تأخذ بزمام المبادرة بدلا من أن يبقي دورها مقتصرا علي ردود الأفعال .
تاريخ الإضافة: 02-08-2008 19:44:51 |
القراءة رقم : 871 |