استقالة الحكومة أخرت الانفجار.. لكنها قد لا تمنعه: الأزمة المؤجلة
بقلم: محمد محمود أبو المعالي
رغم أن الجميع تنفسوا الصعداء صبيحة يوم الخميس الماضي، بعد الإعلان عن استقالة الحكومة، بما في ذلك أنصارها وخصومها، لأن الكل كان مدركا أن خطوة الاستقالة، نزعت فتيل أزمة أشرفت بالبلاد على شفا جرف الانهيار، وأبعدت "الأصابع عن الزناد"، بعد الخطاب التصعيدي لرئيس الجمهورية وتلويحه بحل البرلمان، والرد القاسي والمتحدي لنواب "مبادرة حجب الثقة عن الحكومة" عليه، ووصفهم خطاب الرئيس بنعوت أقل ما يقال عنها إنها تخلوا من روح المجاملة، لأن الفرقاء السياسيين جميعهم، ما كان لهم أن يندفعوا في سبيل إسقاط الحكومة، أو حمايتها، إلى درجة إحراق البلاد، ودفعها نحو هاوية الفلتان السياسي.
لكن هذه الاستقالة كما خيل للكثيرين لم تكن نهاية النفق المظلم، ولم تضع حدا للصراع السياسي المتفاقم، وإنما كانت تأجيلا للأزمة وتأخيرا لانفجارها إلى حين – لا قدر الله -، وهو تأخير قد يكون تحيزا تكتيكيا من كلى الفئتين أو من إحداهما، في معركة كسر العظم بين الرئيس و"المعارضين الجدد"، في انتظار أن يقتنص أي منهم لحظة الضربة القاضية، في مواجهة، تصطدم فيها أسلحة الصلاحيات النظرية، بمتاريس ودروع الواقع القائم، بيد أنه لا خلاف في أن هذه الاستقالة جاءت على ضوء "أمر قضي بليل"، ربما كان لأطراف داخلية وأخرى خارجية اليد الطولى في إبرامه، خصوصا بعد اللقاءات التي جمعت الرئيس ببعض الدبلوامسيين الأجانب، والذين التقوا كذلك ممثلين عن الطرف الآخر.
ماذا بعد الاستقالة؟
وكأول استحقاق لهذا الحل المؤقت، أو الجزئي – كما يخيل للمراقبين – هو إعادة تكليف السيد يحيى ولد أحمد الواقف بتشكيل الحكومة اللاحقة، الأمر الذي اعتبر مكسبا منحه الاتفاق للرئيس الذي ما زال صدى تهديداته وتلويحاته بالصرامة، يتردد في آذان الجميع عندما قبل استقالة الحكومة "التي اتفق مع خصومه على استقالتها"، لكن ما ذا بعد استقالة الحكومة، وإعادة تعيين ولد أحمد الواقف؟.
سؤال طرحه النواب من "معارضي الأغلبية"، الذين تريثوا في إصدار موقفهم مما حصل، ربما رغبة في قراءة متأنية للحدث وخلفياته - كما يقولون -، أو انتظارا لتعليمات وتوجيهات - كما يقول خصومهم-، وفعلا جاء رد النواب مرحبا باستقالة الحكومة – كما كان متوقعا – لكنه ترحيب حذر، ومبطن بمظان الريبة في المستقبل، خصوصا وأن النواب أبدو في البيان الذي أصدروه،، رفضهم لأي نهج غير "التناصح والتشاور بين الأغلبية ورئيس الجمهورية"، - بتقديم الأغلبية على الرئيس في نص البيان – (ولا يخفى على القراء أن النحويين وضعوا للتقديم والتأخير في اللغة العربية، قرينة الرتبة، باعتبارها علة تحدد موقع الكلمة من الجملة) فقدم النواب في بيانهم الأغلبية على الرئيس، ربما إمعانا في الندية التي خلقتها الأزمة الحالية بين طرفي الحكم، وربما من باب قراءة جديدة لديهم لترتيب السلط في البلد، والفصل بينها دستوريا، لكنهم أعادوا الكرة ثانية بالمقلوب في نفس البيان، عندما قالوا إن هذا التناصح والتشاور يأتي "باعتبار علاقة الشراكة السياسية بين الرئيس و قوى الأغلبية الداعمة له"، وهو ترتيب ربما التمس له النواب مبررا من مبررات التقديم والتاخير عن النحويين، "كأن تكون العلاقة بين الطرفين علاقة الكل بالجزء المقتطع منه، كتقدم المستثنى منه على المستثنى".
صراع على توسيع الأغلبية
كما أن اشتمال بيان النواب على نقاط، بدت وكأنها شروط تسوية جديدة تملى من خصم على خصم آخر، وتطرح على طاولة المفاوضات قبل الجلوس إليها، من قبيل "أن تكون الحكومة القادمة نابعة من الأغلبية التي أفرزتها صناديق الاقتراع في الانتخابات (ما قبل تشكيل الحكومة المستقيلة)" في إشارة إلى رفض مطلق للتوجه الذي عبر عنه رئيس الجمهورية مؤخرا، والقاضي بتوسيع الأغلبية الرئاسية، وضم بعض التشكيلات السياسية القادمة من المعارضة التقليدية إلى الحكومة، كحزبي "اتحاد قوى التقدم" اليساري، و"التجمع الوطني للإصلاح والتنمية" (تواصل) الإسلامي، إلى الحكومة القادمة، وهو شرط لم يخف النواب في حواراتهم وكواليسهم أن القصد من ورائه، هو سد الباب أمام مشاركة حزب اتحاد قوى التقدم، أكثر حلفاء الرئيس تحمسا للدفاع عنه خلال الأزمة الماضية، وهو دفاع وصل حد الملاسنة وتبادل الاتهامات الصريحة بينهم وبين خصوم الرئيس، ويقول النواب إن اندفاع قادة اتحاد قوى التقدم في مواجهة الجنرالات والنواب خلال معركة حجب الثقة عن الحكومة، وصل إلى درجة "بات معها التعايش معهم في حكومة واحدة أمرا مستحيلا"، بينما لم يبد النواب تصلبا كبيرا حيال مشاركة حلفاء الرئيس الآخرين في "تواصل" الذين قد تشفع له مناصرتهم "الهادئة" للحكومة المستقيلة، ودفاعهم غير المتحمس عنها، وعزوفهم عن المناكفات السياسية خلال الفترة الماضية، وهو ما جعل الكثيرين يرون أن الرئيس قد يضطر للتخلي عن حلفائه المتحميسن (اتحاد قوى التقدم)، مقابل السماح له بالاحتفاظ بحلفائه غير المتحمسين (تواصل)، لكن تصريحات الوزير الأول المكلف يحيى ولد الواقف التي صرح فيها بأن التشاور سيشمل كافة القوى الداعمة لبرنامج الرئيس، وأن توسيع الأغلبية هدف من أهداف تلك المشاورات، يترك الباب مشرعا أمام احتمال إشراك اتحاد قوى التقدم رغم اعتراض النواب بالتصريح، واعتراض الجنرالات بالتلميح، وإن كانت بعض الرويات تقول إن الاعتراض الجوهري قد يكون على أحد وزراء الحزب فقط، وليس على مبدأ مشاركته في الحكومة.
هذه الشروط التي تضمنها بيان النواب، تؤكد بجلاء أن ما حصل كان انفراجا في الأزمة وليس انزياحا لها، كما أن النواب لم يخفوا في تصريحاتهم ونقاشاتهم أن موقفهم من الحكومة القادمة، سيكون حكما إجماليا عليها، وليسوا بصدد إعطاء آرائهم تفصيليا حول تكوينها وشخصياتها، وهو ما يعني أن الوزير الأول قد ينهي مشاوراته ويقر الرئيس قائمة الحكومة، فيكتشف النواب أن في تناسق ألوان اللوحة الوزارية الجديدة نشازا وتنافرا، فيستيقظ مارد الأزمة تارة أخرى من قمقمه، وتدخل البلاد في دوامة جديدة، الغالب فيها مهزوم، والمغلوب مكسور.
مشاورات أم مناورات؟
كما أن من مظاهر تأجيل الأزمة - لا تجاوزها - ما يتردد عن احتمال إقدام الوزير الأول المكلف يحى لد احمد الواقف، على عملية مناورة سياسية تبدأ بإطالة أمد المشاورات إلى ما بعد انتهاء الدورة البرلمانية الحالية، التي ستختتم يوم السبت القادم 12 يوليو الجاري، وهو ما يعني أن البرلمان لن تكون أمامه فرصة لحجب الثقة عن الحكومة قبل شهر نوفبر القادم موعد الدورة البرلمانية العادية القادمة، على اعتبار أن الدورات الطارئة لا يسمح فيها بتقديم ملتمسات حجب الثقة عن الحكومة، وبالتالي فإن الحكومة ستشكل وفقا لمزاج الرئيس والوزير الأول، وستكون بمنأى عن جرافة البرلمان التي اقتلعت سابقتها، لكن هذا التخمين إذا ما صح، فإنه يعني أن "الفتنة النائمة" ستستيقظ عند أول أيام الدورة البرلمانية الطارئة المتوقعة قريبا، والتي ستخصص لنقاش قانون المالية المعدل على ضوء التكاليف الطارئة للبرنامج الاستعجالي، وتوزيع حصص بعض القطاعات الوزارية التي تم فصلها خلال تشكيل الحكومة الماضية، فلن يألوا النواب جهدا في مقارعة الحكومة وإسقاط كل ما تقدمه من مقترحات، وهنا سيعود هاجس حل البرلمان الذي لوح به الرئيس إلى الواجهة من جديد، وستكون الحجة حينها أن النواب يعرقلون عمل الحكومة وخططها التنموية، وفعلا يكون الرئيس قد وجد مبررا لحل البرلمان غير حجب الثقة عن الحكومة، وبالطبع لن يعدم النواب حجة لمقارعته وربما رفض قراره، وحتى لو حل الرئيس البرلمان فإن انتخبات تشريعية مبكرة في ظل موازين القوى الحالية، لا تضمن بالضرورة انتخاب برلمان غير مشاكس يضمن أن لا تعود المواجهة السياسية مرة أخرى، بل يبقى احتمال انتخاب جمعية وطنية تسيطر عليها القوة النافذة حاليا في البرلمان، من المعارضين الجدد، أمرا واردا، وحينها سيكون من الصعب قانونيا وسياسيا تبرير إعادة حل البرلمان ثانيا، وكلما ابتعد سيف الحل عن رقاب النواب، كلما ازدادت مهمة ترويضهم صعوبة ومنعة.
وحتى لو مرت عملية تشكيل الحكومة بسلام هذه المرة واتفقت مختلف الأطراف على قائمة الوزراء الجدد، وتوابعهم، فإن شبح الأزمة يبقى مخيما على البلاد، خصوصا في ظل انهيار صمام الثقة بين الأطراف، فلا الرئيس بات واثقا – خلافا لما قال في خطابه – بالجنرالات، والثقة التي حذر من فقدانها في النواب غابت، ولا الجنرالات والنواب باتوا يثقون في الرئيس ويأمنون قادم أيامه، ويسلمونه زمام الأمر والمصير القادم.
من التبعية إلى الندية
هذا فضلا عن أن هذه الأزمة خلقت خريطة جديدة للحكم في البلاد لم تكن معهودة في السابق، فمنذ استقلال البلاد عام 1960 ظل نظام الحكم فيها قائما على التبعية المطلقة للرئيس باعتباره قمة هرم السلطة والآمر المطاع الذي لا معقب لحكمه، وظلت العلاقة بين مختلف السلط، خصوصا التشريعية كالبرلمانات والللجان والمجالس العسكرية، والتنفيذية ممثلة في الرئيس سواء كان للجمهورية أو الدولة، قائمة على التدرج والتبعية، وخلال الأزمة الحالية اتضح أن للحكم في البلاد أكثر من رأس، وأنه لم يعد كما كان سابقا سلما لرجل واحد، وإنما بات فيه رجال متشاكسون، بل وربما مجموعات، وسقط جدار التراتبية وما تقتضيه من تبعية في العلاقة بين الرئيس والبرلمان، ولعل بيان النواب الذي جاء ردا على خطاب الرئيس، كان كافيا لتوضيح مدى الندية التي صادرت إليها الأمور بين طرفي الحكم، وكيف أن حصانة كرسي النيابة أصبحت مطية للتطاورل على هيبة كرسي الرئاسة، وهنا تنقلب المفاهيم وتدخل البلاد في عهد جديد، قوامه أن العلاقة بين التشرعية والتنفيذية اصبحت علاقة ندية وشراكة، لا علاقة تبعية وتراتبية، ولكل جديد تأثيرات وتبعات، سيكون في مقدمتها هذه المرة سهولة التصدام والتقارع بين الطرفين، وهو ما يعني أن تطورات الأزمة أبعدت – دون أن تقصي - احتمال تشكيل حكومة تقودها المعارضة، وتفرض مستوى من التعايش السياسي مع الرئيس، إلا أننا بتنا قاب قوسين أو أدنى من مرحلة تعيش آخر من نوع آخر بين الرئيس وحكومته من جهة، وأكثرية برلمانية من جهة أخرى، أي أننا أفلتنا من شراك التعايش السياسي التقلدي بين الرئيس والمعارضة، إلى تعايش سياسي جديد، بين شخص الرئيس، وخصومه الداعمين لبرنامجه السياسي، وهو لغز قد يتطلب حله وقتا أطول تنضج فيها الأمور على نار هادئة، ويستجمع فيها الطرفان الشوكة والحافر والحابل والنابل، استعدادا لساعة الحسم الموعودة.
من ستار الحكومة إلى "أهل البيت"
وفي ذات السياق – اي سياق معركة الرئيس شخصيا لا الحكومة، و"المعارضي الجدد" - تأتي خطوة إقدام بعض أعضاء مجلس الشيوخ على الإعلان عن تشكيل لجنة تحقيق في مداخيل ومصاريف هيئة حرم رئيس الجمهورية ختو بنت البوخاري، وحديثهم صراحة عن اتهامها باستغلال النفوذ وتلقي تمويلات من جهات مشبوة، كخطوة تصعيدية في الأزمة، كخطوة غير مسبوقة، لا تمكن قراءتها خارج أتون التجاذبات السياسية الحاصلة، خصوصا بين الرئيس وخصومه الجدد، لكنها خطوة تنتقل بالمواجهة من استهداف الرئيس تحت ستار حكومته، إلى استهدافه في أهل بيته، كما أنها تعتبر دليلا واضحا على أن ما حصل لم يكن "اتفاق سلام شامل"، وإنما كان "هدنة مؤقتة".
ولعل الاستهداف هذه المرة جاء قارعا لطبول أزمة اللاعودة في القيادة، فاستهداف الرئيس في أسرته بل وفي شخص عقيلته، أمر ما كان ليتم، لولا أن "ترموميتر" الأزمة السياسية، وصل إلى درجة استخراج كل سهام الكنانة، والرمي بها في المقاتل السياسية والاجتماعية.
فالتلويح باتهام عقيلة الرئيس بالفساد المالي، خطوة غير مسبوقة، هذا فضلا عن حساسيتها في مجتمع محافظ، لم يعرف للسيدات الأول حضورا بالحجم الذي يجعلهن طرفا في العراك السياسي الدائر في البلد، ويخرجهن من مخادعهن إلى ساحات التكايد السياسي والقانوني.
لكنها خطوة بالتأكيد ينتظر أصحابها ردة فعل من الرئيس المستهدف بها، مع استبعادهم التوليح هذه المرة بعصى الحل، لأن حل مجلس الشيوخ الذي جاء منه التحرك ضد السيدة الأولى، أمر خارج ترسانة الصلاحيات المتاحة للرئيس، فكيف سيمنعهم إذا من الوصول إلى عقر الدار، تحت ذريعة تقصي وتتبع المال العام واستغلال النفوذ.
تاريخ الإضافة: 06-07-2008 12:14:20 |
القراءة رقم : 499 |