التاريخ لا يرحم
بقلم: الدكتور محمدو الناجي خليفة
|
نشرت جريدة أخبار نواكشوط في عددها 970 بتاريخ 29/06/2008 مقالا تحت عنوان "بعيدا عن الصلاحيات الدستورية، والصدامات العسكرية" لمعالي الأستاذ اسلم بن سيد المصطف، وحرصا على الإبلاغ، نشر المقال في يومية "السفير" عدد 739 بتاريخ 29/06/2008 ،تحت عنوان "بعيدا عن التلويح بالسلاح" سلاح الصلاحية أو سلاح الحديد والنار، مدعما هذه المرة بصورة مدنية أنيقة.
وقد رأيت أن أحاور الأخ اسلم في بعض الأفكار التي أوردها في مقاله المزين بالتراث "من الإشارة إلى قصة إبليس من سورة الأعراف، كتشبيه ضمني، إلى ملكة سبأ من سورة النمل، إلى جثة الملك الإسباني..
قد يبدوا لقارئي المقال أن هناك تناقضا بين عنوان المثال ومتنه:
الابتعاد عن التجاذبات السياسية في العنوان والانغماس فيها إلى الأذنين في متن المقال، ليس الأمر كذلك، بل إنها صورة خيالية اهتدى إليها الكاتب كبراعة استهلال بارعة، لما يريد أن يقوله: ابتعاد الجيش عن السياسية وتسليمها للمدنيين في الظاهر، وانغماسه فيها من الرأس إلى أخمص القدم، ليخلص الكاتب بعد ذلك إلى أن تدخل العسكريين في التوجيه السياسي وما يجري في "كل ديمقراطيات العالم".
من أين جاء الأستاذ اسلم بهذه "الكلية" التي لابد أن يكون قد حسب لها حسابها، فليس ممن يلقى الكلام على عواهنه أو يطرح الأمور جزافا، فهو من العالمين بالمنطق وفقه القانون .
اعتقد جازما أنه سيبذل جهودا جبارة للتدليل على عبارة "كل الديمقراطيات في العالم"، بل لابد من جهد خارق لجدار الصمت والعادة للوصول إلى حد أدني يقنع القارئ، والغالب أنه لن يقدم إلا أمثلة نادرة، ولا يقضى بالنوادر، بل ستكون الاستثناء الذي يؤكد القاعدة.
وليسمح لي الأستاذ اسلم أن أتساءل: ماذا كان آخر كلامه قبل أن يقرر الاحتجاب؟
لماذا كان يتكلم بصراحة بالغة في الوقت الذي كان الكلام مكرورا ممجوجا، ويسكت في الوقت الذي أصبح الكلام مرغوبا ومطلوبا، لماذا اختار أن تكون الطلقة الأولى على جدار الصمت هي الدفاع عن الحكم المقنع لأصحاب القبعات؟
لعل في الإجابة على هذه التساؤلات، وربط بعضها ببعض، والوصل بين أولها وآخرها، واكتناه ظاهرها وباطنها، ما ينير بعض نقاط الحوار، ويوضح طبيعة الخلفيات.
وفي انتظار الإجابة على استشكالاتي، أريد أن ألاحظ أنني كثيرا ما سمعت هذه الأيام من المحافظين التقليديين والمحافظين الجدد، التشهير بأفكار السبعينيات، ويرفعون هذه العصا في وجه محاوريهم، وكأنها أفكار تؤدي إلى خلل المنهج والخطل الفكري؟
إن الأفكار السبعينية، كانت وما تزال حقبة ممتازة من نضال الشعوب ضد الطغيان والفساد، وإعلاء لشأن المستضعفين في الأرض، ومن الطبيعي أنها ستزعج من يضايقهم الثبات على المبادئ والصبر على المعاناة، تضايق من يعادي الأفكار التحررية والنضال الرادكالي الذي يهدف إلى المساهمة في خلق عالم جديد، تسود فيه المساواة والحرية والديمقراطية.
اعترف للأستاذ اسلم أنني لم أفهم ولست وحدي جملة وردت في المقال، عندما تكلم عن "النخبة التي تركب السيارات الفارهة، وتسكن العمارات الشاهقة، وتملأ دروج مكاتبها من دفاتر الوقود، وحزم النقود" فمن يعني بذلك؟
إذا كان يعنى التيار الذي يثير غضبه، ويحرك حنقه فقد، وقع صديقنا في "الخلط والتخليط" ليس لهؤلاء سيارات ولا عمارات ولا حتى أدراج مكاتب يملئونها بأي شيء، هؤلاء هم أبعد الناس عن الرفاهية، ويمكن أن ترميهم بكل شيء كما فعلت إلا الثراء والبذخ، أغلبهم يسكنون في الأرياف والأحياء الشعبية، أرجوا التدقيق في الأمر والابتعاد عن الخلط والتخليط.
لعل الكاتب استهواه النسق السجعى كما اجتذبه، عندما وصف حالة العسكريين المساكين الذين أحيط بهم من بين أيديهم، ومن خلفهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم، أو لعله تذكر بذخ الوزراء أيام الحكم المعاوي وما شهد العدو والصديق لهم به من إسراف وتبذير، فراق له وصف تلك الوضعية المفقودة، وأبدلها بصورة أدبية موجودة، الله تعالى أعلم .
طبعا لا يمكن أن يعنى بذلك العسكريين المساكين الذين ألبسهم قول الله تعالى تضمينا: "ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين" فقال ما نصه :"وحينما من بعض القادة العسكريين على الذين استضعفوا في الأرض وجعلوهم قادة وأئمة ومكنوا لهم في الأرض" هل يعنى الكاتب بهذا رئيس الجمهورية؟لا يهم، المهم أنهم فعلوا ما لم يكن بوسع أحد أن يفعله، ما شاء الله ما شاء الله .. ولا عمر بن الخطاب ولا حفيده عمر بن عبد العزيز...
وهنا أريد أن أعود إلى تاريخ ما سماه الكاتب " القوى الرادكالية"، وعلاقتها مع الانقلابات العسكرية، لأوضح نقطة ربما تلتبس على البعض، أو أريد لها الالتباس ،وإذا انجلت فسيكون الفضل للأخ اسلم لأنه أثار الموضوع، لقد اتصل قادة 10 يوليو بهؤلاء ودعوهم إلى مساندة الانقلاب، فأجابوهم بصراحة أنهم ضد الانقلابات، كأسلوب للتبادل على السلطة، ولكننا –يقولون- سنستر الأمر، رغم أن الديمقراطيين في ذلك الوقت غاضبون أكثر من أي وقت مضى على حكم المختار ولد داداه، بسبب حرب الصحراء وقادة 10 يوليو، والحمد لله، ما زالوا أو بعضهم على قيد الحياة، ويمكن التأكد من هذا الكلام بالاستماع إلى شهاداتهم، كما كان الديمقراطيون أيضا ضد انقلاب 6 أبريل الذي قاده المرحوم العقيد أحمد بن بوسيف فتم سجنهم ومطاردتهم، وعندما حدث انقلاب 3 اغشت 2005 ، أصدر الرادكاليون في اليوم نفسه بيانا تبرؤوا فيه من الانقلاب كوسيلة للحكم، وأعادوا الموقف نفسه ببيان آخر وزع يوم 5 من أغشت، ثم أصدروا يوم الثامن أغشت بيانا طالبوا فيه الجيش بتشكيل حكومة وحدة وطنية، لإخراج البلاد من الأزمة، وللوصول بالدولة إلى بر الأمان.
فمن أين للأستاذ اسلم حكمه وأن يستعمل عبارة "لم ينبسوا ببنت شفة"، على الأقل كان عليه أن يلجا إلى حيطة الفقهاء" ويقول: "والله تعالى أعلم"، لعل الاندفاع والحماس أنسياه تلك العبارة وهو الفقيه المتمرس، وفي مقام آخر يؤكد معالي الوزير أن هذا التيار كان له وزرائه وسفراؤه و... و.... في مختلف الحكومات العسكرية المتعاقبة، وهنا يقع في الخلط والتخليط وهو المطلع على أسرار الأمور، ملم بخفاياها، وعالم ببواطنها .
إن هذا التيار عرف هجرات عديدة، ومنها الهجرة الكبرى المعروفة اتجاه المرحوم المختار ولد داداه، إبان الإصلاحات التي قام بها النظام آنذاك، وأصبحت تلك الأطر جزء لا يتجزأ من ذلك النظام، ولم يعد يربطها بالخط السابق إلا حقبة من التاريخ ، وغير هؤلاء كثيرون تسربوا في جسوم حركات وتيارات أخرى، ولا يمكن لأحد أن يتصور أن الأخ اسلم يخلط بين "كان" و"أصبح" و"مازال" فالذي يحسب على التيار السياسي، هم الفاعلون فيه الناشطون في تنفيذ برامجه والمؤتمرون لأوامره، يختارهم لهذا الأمر أو ذاك،ّ و أؤكد وهذا - قابل للتدقيق لحضور الشهود - أن هذا التيار تمت مساومته من قبل مختلف الأنظمة للاشتراك في السلطة ولم يحدث أن قبل، إلا في حالة واحدة على سبيل التجربة مع حكومة ولد ابنيجاره واستقال وزيره دافا بكري بعد شهور، عندما رأي أن التجربة فاشلة ولا تتماشى مع خط حزبه.
ويقولون والأستاذ اسلم أدري أن دافا هو الوزير بل المسؤول الوحيد الذي استقال منذ إنشاء الجمهورية وحتى الآن.
إن هؤلاء يعربون على الدوام عن رأيهم بصراحة ويدافعون عن مواقفهم بشجاعة، ولو تحملوا في ذلك السجون والمنافي، لتسأل عن ذلك سجون، بيله، وتامشكط، وولاته، وباسكنو، وبومديد، وبئر أم اكرين... لقد خاض هؤلاء نضالا مستميتا وتحت ظروف بالغة الصعوبة منذ عشرات السنين، ولم يقبضوا أي ثمن لذلك، يأتي آخرون من بيوتهم وجامعاتهم مباشرة فيتبوأوا المناصب الرفيعة من إدارات ووزارات، وليكون جزاء هؤلاء عند البعض هذا النكران وتشديد النكير:
فإذا تكون كريهة أدعى لها .
وإذا يحاس الحيس يدعى جندب.
يعول السيد الوزير على أن التاريخ، قد يثبت وجهة نظره في مسؤولية هؤلاء القوم عن مخالفات عديدة عرفتها الأنظمة العسكرية والمدنية المتعاقبة، وهنا عادت إلى الأستاذ حيطة الفقهاء فاستعمل قد، وأبقى الاحتمال مفتوحا، هذا شيء جيد لا ينبغي أن يتهرب من التاريخ ،ولكن لعل التاريخ يثبت أشياء أخرى فظيعة كانت غامضة على الكثيرين، والتاريخ لا يرحم.
أما حق الجيش في توجيه السياسة بل ضرورة ذلك، فهذه وجهة نظر الأستاذ اسلم وهذا حقه الذي أحترمه، ولكن ليكن على علم بأن ما يقوله خارج عن الدستور الذي صادق عليه الشعب الموريتاني، ومن بينه القوات المسلحة بضباطها وجنودها وحتى بجنرالاتها، فما حكم الخروج عن إجماع الأمة؟"افتونى فى أمرى "؟ و ليعذرنى الصديق اسلم إذا كنت فهمت أن المقال رسالة موجهة إلى العسكريين للفت نظرهم بان هناك من هو مستعد لحماية ظهرهم وتبرير وجهة نظرهم بكل الوسائل العقلية والشرعية والتاريخية، إذا رغبوا في ذلك ولعل الرسالة وصلت.
وما أنا بعيد منه وينبغى أن لا يفهم عنى أن هناك أي نزعة للتقليل من شأن الجيش أو التهوين من دور العسكريين الذين أوصلونا إلى هذه النقطة المتقدمة، فلهم منا الشكر، سواء كانت دوافعهم انقلابية وطنية خالصة أو وطنية شخصية ...
تاريخ الإضافة: 05-07-2008 19:31:33 |
القراءة رقم : 709 |