وهل عفا الشعب..؟
في الأيام الأولى للإطاحة بالرئيس الموريتاني الأسبق معاوية ولد الطايع قبل ثلاثة أعوام تعالت الأصوات من كل جهة مطالبة بمحاكمة المفسدين، وفتح ملفات الاختلاس، والتحقيق في الرشاوى والجرائم الاقتصادية، التي ارتكبها النظام المخلوع رئيسه، ووصل الأمر أن اشترطت بعض القوى السياسية دعم الحكم الجديد بقطع خطوات ملموسة في هذا الاتجاه..
وبدا أن تلك الأصوات تصطدم بوقر في آذان الزمرة العسكرية المسيطرة، وفسر ذلك التصامم بخشية المسيطرين من فتح ملف يعتبر أغلبهم ضالعا فيه، خاصة قدماء الجيش الذين تولوا لسنوات مناصب لها من النفوذ والسيطرة ما يجعلها في منأى عن المراقبة أحرى المحاسبة..
وحاول المجلس العسكري خلال فترته الوجيزة أن يقنع دول العالم والمنظمات الحقوقية الدولية والمواطنين الموريتانيين، أنه ليس سوى منقذ جاء بالخلاص، بعدما سدت كل أبواب التغيير السلمي أمام الراغبين فيه، وأن مهمته كمخلص من هذا الوضع المتردي، تنحصر في تسليم السلطة لمن يختاره الشعب، تاركا ملفات الماضي المعقدة والمتشابكة للقادمين ممن سيصطفيهم لتولي أمور الدولة..
وتدريجيا.. اقتنع الشعب المغلوب على أمره بذلك الطرح على مضض ، مؤجلا آمال تحقيق العدالة في الظالمين والمفسدين، بعدما تأكد أن ملفات الفساد وجرائم حقوق الإنسان، والبت في جميع المسائل المصيرية المتراكمة منذ عقدين من الزمن، أو أكثر ، كلها أمور قد أجل بحثها إلى أن يتسلم الحكام الجدد مقاليد الدولة المنهكة.
وخلال فترة المجلس العسكري التي دامت زهاء العامين، توارى كثير من تلك الوجوه المشهود بفساد أصحابها، وغير بعضها مواقعه، ملتحقا بصفوف من كان يعتبرهم إلى عهد قريب "خونة" و"متآمرين لقلب نظام الحكم".
وما هي إلا أشهر حتى خفتت تلك الأصوات المنادية بمحاسبة المفسدين، وتقديمهم للعدالة أو مكاتب التحقيق، وارتفعت في منحى مواز لها أصوات أخرى تنادي بالعفو عن ما سلف، أيا كان مرتكب الخطيئة، وإسقاط الجريمة بالتقادم، وفتح صفحة جديدة للوطن، تكون القيادة فيها لمن يختاره الشعب عن طيب خاطر، وبدا أن يدا خفية تمتد من قبل العسكر لإعانة المطالبين بالعفو، وطفق المبررون يحترفون لي أعناق الأدلة، مرغبين في العفو الأقرب إلى التقوى، وأن لا وازرة تزر وزر أخرى، معتبرين ما قيم به في عهد ولد الطايع لا يحاسب عليه في عهد العسكريين..
وحدهم المواطنون البسطاء كانوا يدركون أن أمرا يبرم بليل العسكر الحالك، وأن الوجوه المتوارية في زحمة التغيير سلكت طريق "العودة" في "عهد الديمقراطية والتنمية" وتسربت بين آليات "الترشيح" لتصل في نهاية المطاف إلى القمة..
ولأن الأصوات المنادية بمحاسبة المفسدين كتمت بدعوى عدم مسؤولية العسكر عما سبقهم، لم نسمع بعد مغادرتهم القصر الرمادي من يتساءل عما فعلوا؛ أو من يفتح حتى مجرد تحقيق بسيط فيما خلفوا، إلا ما كان من جدل خافت أثير في الأيام الأولى لحكومة "التكنوقراط" حول فراغ الخزينة العامة للدولة؛ إذ أصر المغادرون على أنهم تركوها "تفيض" ، وأصر الوافدون على أنهم وجدوها "قاعا صفصفا"..ولم يتبين أحد حقيقة الأمر.
ومع تبني النظام الجديد سياسة "التقشف" وتنازل الرئيس عن جزء من راتبه وانتهاج "الشفافية"، وإلزامه نفسه وحاشيته بالتصريح بممتلكاتهم، استبشر البائسون بمعرفتهم مصير أموالهم، وإن لم يخالجهم شك في أنها لن تسلك السبيل المؤدية إلى أكواخهم المهترئة، وقدورهم الباردة..
واليوم... وبعد مرور أسابيع على إقالة حكومة "التكنوقراط" التي حصلت على أكثر مما تخيلت من المليارات من الدول المانحة، في اجتماع المجموعة الاستشارية الخاصة بموريتانيا في باريس ، وما سبق ذلك من أموال المنكوبين في فيضانات المناطق الشرقية، وبعد تعيين "الحكومة السياسية" وعودة "حيتان" العهد الطائعي في طليعتها، يحملق الجوعى في الوجوه المغادرة وقد رقت قلوبهم لموعظة "عفا الله عما سلف" ويتساءلون من يضع حدا للحلقة المفرغة من النهب والمغادرة والعفو .. ثم النهب والمغادرة؟، وهل سيأتي يوم يتساءل فيه الحكام ..هل عفا الشعب عما نهب.. ليعفو الله عما سلف.؟!
تاريخ الإضافة: 16-06-2008 17:48:37 |
القراءة رقم : 532 |