عملية النعمة أو "غزوة بلال وإخوانه".. كيف خطط لها وكيف نفذت (تحليل إخباري)
ستة من القتلى الذين حاول التنظيم الثأر له في النعمة
|
شكلت العملية الانتحارية التي استهدفت مقر قيادة المنطقة العسكرية الخامسة في مدينة النعمة (1200 كلم شرق نواكشوط) فجر يوم الأربعاء الماضي، ثاني ردة فعل لتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي على العملية الموريتانية الفرنسية التي استهدفت معسكرا تابعا للتنظيم في شمال مالي، وأسفرت عن مقتل سبعة من عناصره بينهم موريتانيان.
فقد سبق وأن أعلن أمير التنظيم "عبد الملك دوركدال" المكنى "أبو مصعب عبد الودود" أن قتل الرهينة الفرنسي "ميشيل جرمانو" كان الرد الأسرع على تلك العملية، ووعد قاضي إمارة الصحراء "أبو أنس الشنقيطي" بمعاقبة موريتانيا وفرنسا على ما قامتا به.
ورغم أن تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي لم يعلن تبنيه حتى الآن للهجوم، إلا أن المؤشرات الأولية تؤكد أن قيادة التنظيم هي من خطط لها وأعدها ونفذها، وأن إعلان تبنيها مجرد مسألة وقت.
خيار الزمان والمكان
كما لم يكن اختيار الزمان والمكان اعتباطيا ولا عشوائيا، بل جاء مدروسا في بعديه المكاني والزماني، فقد وقع الاختيار زمانيا على شهر رمضان المبارك الذي عادة ما يرفع فيه التنظيم وتيرة عملياته المسلحة حسب التجربة الجزائرية، إذ تنظر القاعدة وسائر الحركات الإسلامية المسلحة في العالم إلى شهر رمضان المبارك باعتباره "شهر الجهاد والفتوحات والمعارك الإسلامية الكبرى، منذ غزوة بدر في السنة الثانية للهجرة، وحتى توقف الفتوحات بعد معركة بلاط الشهداء عام 114 للهجرة"، وبالتالي فإن على "المجاهدين" التيامن بتلك الفتوحات والرفع من وتيرة "عملياتهم الجهادية ضد الجيوش المرتدة وأنظمة الطاغوت"، كما أن الهجوم يأتي بعد حوالي شهر واحد على العملية التي سقط فيها سبعة من مقاتلي التنظيم على أيدي قوات موريتانية تدعمها فرنسا في هجوم مباغت شنته فجر يوم الثاني والعشرين من يوليو الماضي على معسكر للتنظيم في شمال مالي، فضلا عن اختيار مسرح العملية وهو قيادة المنطقة العسكرية الخامسة في مدينة النعمة، والتي تعتبر مسؤولة عن الهجوم الذي يحاول التنظيم الثأر لمن قتلوا فيه.
العملية كما يعتقد المراقبون والعارفون بقضايا الجماعات المسلحة في الصحراء الكبرى، خطط لها في أحد المعسكرات في شمال مالي وبإشراف من القادة الميدانيين المباشرين لإمارة الصحراء، وفي مقدمتهم "يحيى أبو عمار" و"عبد الحميد أبو زيد" و"يحيى أبو الهمام"، مع استبعاد أي دور في تلك العملية لأمير "كتيبة الملثمين" "خالد أبو العباس" الملقب "الأعور" صاحب أول هجوم على الجيش الموريتاني قبل خمس سنوات في لمغيطي، والذي كان مشغولا خلال الأسابيع الماضية في عملية مقايضة الرهينتين الإسبانيتين بالمعتقل السابق في السجون الموريتانية "عمر الصحراوي"، بمعية مبلغ مالي نهاز ثمانية ملايين يورو.
في"أرض العزة" أعدت العملية
ويعتقد المراقبون أن تجهيز سيارة "تويوتا لاندكريزر" التي اختطفت من الإدارة الجهوية للصحة في شمال مالي، تم قبل أيام في معسكرات التنظيم، وهي بالمناسبة ملك عمومي "تعود لأنظمة الردة وحكومات الطاغوت ومن الجهاد في سبيل الله الاستيلاء عليها واستخدامها في نشاطات المجاهدين"، وهنا نتذكر حادثتي السطو المسلح على أموال ميناء الصداقة في نواكشوط خلال شهر أكتوبر عام 2007، والسطو على سيارة السفير الموريتاني السابق في واشنطن التي استولى عليها عناصر التنظيم واستخدموها في انسحابهم من المنزل الذي اشتبكوا فيه مع الشرطة بتفرغ زينة في إبريل سنة 2007، فهي ممتلكات تعود لحكومات كافرة لا ضير في الاستيلاء عليها.
وبالعودة إلى العملية الانتحارية في النعمة، فإنه من المرجح وفقا لأدبيات وتقاليد التنظيم، أن يكون قد تم تدارس إمكانية القيام بعمل انتقامي وذلك في اجتماعات مغلقة تعقد في أحد المعكسرات بشمال مالي، أو ما يعرف لدى التنظيم باسم "أرض العزة"، أو "طورا بورا المغرب الإسلامي"، ووقع الاختيار على مدينة النعمة والمنطقة العسكرية فيها كهدف للعمل الانتقامي، ثم يتم تكليف خلية من عناصر التنظيم بالإعداد للعملية لوجستيا وميدانيا، على أن يتم استدعاء أحد المتطوعين للعمليات الانتحارية الذين يتم تسجيل أسمائهم سابقا لدى قيادة التنظيم، من قبل أميره المباشر، الذي يشعره بأن دوره قد حان لتنفيذ ما تطوع له، ومن المرجح أن لا يكون الانتحاري قد عرف الهدف الذي سيهاجمه إلا قبل موعد العملية بقليل، إذ لا يدخل ذلك عادة في اختصاصه وإنما هو من اختصاص القيادة ومن تكلفهم بالتحضير للعملية، أما هو فقد "نذر نفسه للموت في سبيل الله، وحيثما يوجهه أميره فهو ملزم بالسمع والطاعة"، ولا علاقة له بتحديد الهدف أو اختياره.
غزوة من؟
ومن المتوقع أن يصدر التنظيم قريبا بيانا قد يرافقه إصدار مرئي لتصوير العملية، أو وصية الانتحاري، يعلن فيه التنظيم تبنيه للهجوم انتقاما لدماء قتلى العملية الموريتانية الفرنسية، بل إنه من المرجح حسب أدبيات التنظيم أن تحمل هذه العملية اسم أحد القتلى الذين سقطوا في الهجوم الموريتاني الفرنسي، والأرجح أن يكون "بلال أبو مسلم الجزائري" ، باعتبار أنه الأهم ـ بمنطق الترتيب العسكري والتنظيمي ـ بين قتلى العملية، وبالتالي فالإعلان قد يأتي منبئا بتحمل التنظيم مسؤولية "غزوة الشهيد بلال أبو مسلم"، أو "غزة بلال وإخوانه"، هذا إذا لم يختر لها التنظيم إسم موقعها (غزوةالنعمة) على أن يقدم لها حصيلة في الخسائر المادية والبشرية تختلف عن تلك الحصيلة المعلنة من طرف السلطات الموريتانية.
كما أن المؤشرات تنحو نحو تحميل "سرية الفرقان" في إمارة الصحراء مسؤولية العملية الانتحارية، فهي التي تعرض مقاتلوها للقتل في الهجوم الموريتاني ـ الفرنسي، وسقط سبعة من عناصرها، لذلك من غير المستبعد أن تعلن أن أحد مقاتليها الموريتانيين أو من سكان أزواد في شمال مالي هو من نفذ الهجوم الانتحاري، انتقاما لرفاقه القتلى.
وانطلاقا من تجارب سابقة ومعطيات متوفرة على الأرض، يمكن افتراض سيناريو العملية الانتحارية على النحو التالي:
توجهت الخلية المكلفة بتحضير العملية وتنفيذها من أحد معسكرات التنظيم في شمال مالي، بعد أن استلم أميرها التعليمات من قادته، وبصحبتهم الانتحاري الذي سينفذ الهجوم، قاصدين مدينة النعمة حيث الهدف المحدد، وذلك بعد أن ودع "الانتحاري" أو "الاستشهادي" ـ حسب أدبيات التنظيم ـ "إخوانه" وسجل وصيته على شريط فيديو سيتم بثه لاحقا، وحسب المعلومات المتوفرة فقد دخل عناصر الخلية إلى مدينة النعمة قبل تنفيذ العملية بقليل، قادمين من الجهة الشمالية الغربية، ومع سكون حركة المدينة بعد منتصف الليل بساعة، توجهوا إلى الساحة المقابلة للبوابة الشرقية المنطقة العسكرية الخامسة أمام مباني الولاية وسط المدينة، وهنا انفرد الانتحاري داخل سيارته بعد أن حدد له أمير الخلية الهدف وأعطاه إشارة الانطلاق الأخيرة للتنفيذ، أما رفاقه فمن المرجح أن يكونوا قد اتخذوا لأنفسهم موقعا غير بعيد داخل السيارة الأخرى، من أجل متابعة تنفيذ العملية وتصويرها، ومن ثم الانسحاب بسرعة قبل أن تتم إعادة تنظيم صفوف الجيش والسلطات في المدينة بعد صدمة المفاجأة، فقد كان المنفذون ـ حسب نوع العملية ـ يتوقعون أن تسفر عن مقتلة كبيرة في صفوف العسكريين الموريتانيين، إذ أن السيارة ملأت متفجرات بحيث لا تبقي ولا تذر على مساحة دائرة ذات قطر كبير، والجهة التي اقتحمت منها مقر القيادة العسكرية، يوجد فيها مخزن للأسلحة والذخيرة، وهو ما كان متوقعا ـ لدى المخططين للعملية ـ أن يؤدي إلى مضاعفة حجم الانفجار والخسائر البشرية والمادية، لكن رصاصات الحراس باغتت الانتحاري قبل أن يصل هدفه، وأدت إلى انفجار سيارته وهي لما تصل بعد نقطة الصفر، أما رفاقه فسيغادرون المدينة على الفور دون انتظار النتائج عائدين إلى المعسكرات لأن مهمتهم انتهت بتنفيذ العملية وتصويرها، وحانت لحظة الانسحاب، قبل أن تستفيق السلطات من هول المفاجأة وتبدأ مرحلة التحقيق والتعقب والملاحقة.
حتمية المرافقين
ورغم أن مصادر شبه رسمية حاولت التشكيك في روايات السكان المتواترة بشأن وجود سيارة أخرى كانت ترافق السيارة التي استخدمت في تنفيذ العملية الانتحارية قبل الانفجار بقليل، إلا أن التجارب والمعطيات الميدانية تؤكدان عدم صحة ما ذهبت إليه تلك المصادر شبه الرسمية، فبالإضافة إلى شهادات السكان في "ملك البطاح" و"كلب اجمل" شمال غرب مدينة النعمة، وشهود عيان في وسط المدينة، أجمعت كلها على مشاهدة سيارة ثانية كانت ترافق تلك التي فجر الانتحاري فيها نفسه، تبقى المؤشرات الأخرى المستنبطة من تجارب التنظيم وطرق عمله، تعزز صحة ما ذهب إليه السكان، وأول هذه المؤشرات هي أن مثل هذه العمليات يتم التخطيط والإعداد لها من طرف عناصر تكلفهم قيادة التنظيم بذلك عادة، وهم من الثقات المقربين، أو من يمكن أن نسميهم "رجال المهمات الصعبة"، ويشترط فيهم عادة الخبرة بالمناطق المستهدفة، والثقة المكتسبة من طول المراس في المعسكرات وتجارب سابقة خولتهم أن يكونوا رجالا يكلفون بمثل تلك "المهام الصعبة"، أما الانتحاري فيقتصر دوره عادة على التنفيذ الأخير والحاسم، وهو في الغالب الأعم جندي مقاتل في صفوف إحدى الكتائب أو السرايا.
التصوير.. تحريض وتصديق
كما أن التنظيم يقوم في معظم الأحيان بتصوير العمليات والهجمات التي ينفذها، من أجل عرضها على شبكة الانترنت لأغراض عديدة منها: تعزيز بياناته ومنشوراته بوقائع مرئية، وإظهار قدرته وتحكمه بحيث لا يبدو الأمر مجرد شخص أرسل ونفذ عملية انتحارية طائشة أو ضربة حظ، وإنما هي عمليات مدروسة خطط لها وأعد وتم تصويرها للتأكيد على ذلك، هذا فضلا عن تأثير بث مثل تلك الصور على شبكة الانترنت في نفوس الشباب المتحمسين للتنظيم، أو المتعاطفين معه، الأمر الذي يسهل من مهمة خلايا التجنيد والاكتتاب، بل وحتى خلايا فرز قوائم الانتحاريين، وباختصار فإن الصورة تعتبر جزء أساسيا من الآلة الإعلامية والدعائية للتنظيم لذلك فهو يحرص عليها ويعتبرها جزء من "المهمة الجهادية".
وهنا قد يقول قائل إن جميع العمليات التي نفذها التنظيم في موريتانيا لم يتم تصويرها ولا بث صور لها على الانترنت، وبالتالي فالحديث عن احتمال وجود شخص أو أشخاص كانوا يقومون بتصوير عملية النعمة لحظة وقعها غير وارد، لكن بالعودة إلى تفاصيل ما قام به التنظيم من هجمات على الأراضي الموريتانية، نجد الرد على المشككين في ذلك، فأول عملية نفذها التنظيم في موريتانيا كانت عملة لمغيطي سنة 2005، وقد تم تصويرها من طرف أحد عناصر التنظيم ويدعى "محمد التونسي"، إلا أن التسجيل اختفى لاحقا قبل بثه على شبكة الانترنت، ويعتقد أنه وقع في يد الأمن الموريتاني أثناء اعتقاله لنشطاء عائدين من المعسكرات، أو مطاردة بعض المسلحين في الصحراء، أما عمليتا تورين والغلاوية فلم يتم تصويرهما لأن التنظيم لم يخطط لهما أصلا كعمليات عسكرية ضد الجيش الموريتاني، فعملية تورين سنة 2008 نفذتها مجموعة من المقاتلين بقيادة "عبد الحميد أبو زيد" أمير "كتيبة طارق بن زياد" جاءت من شمال مالي، لمهاجمة مواقع الشركة الوطنية للمعادن "سنيم" قرب مدينة زويرات، بحثا عن المتفجرات التي تستخدم في تفتيت الصخور التي تحتوي على معدن الحديد، واختطاف بعض الأجانب من الغربيين العالمين في الشركة إن وجدوا، وأثناء توجه مقاتلي التنظيم نحو الهدف صادفوا ليلا وحدة من الجيش الموريتاني تلاحقهم عند بلدة تورين فنصبوا لها كمينا وقتلوا 12 عنصرا منها وانسحبوا عائدين إلى معاقلهم في شمال مالي، أما هجوم الغلاوية سنة 2007 فقد نفذته مجموعة صغيرة جاءت للبحث عن غربيين من السياح أو موظفي الهيئات الدولية في شمال ولاية آدرار، بغية اختطافهم، فصادفتها سيارة عسكرية تقل ثلاثة جنود حاولت مطاردتهم، فقتلوهم وعادوا من حيث أتوا، وفي وسط موريتانيا سنة 2007 قتل نشطاء من التنظيم أربعة فرنسيين قرب مدينة ألاك، ولم يتم تصوير العملية أيضا لاعتبارات منها أنها كانت مرتجلة وبمبادرة فردية من منفذيها، دون علم التنظيم بها، كما أن المنفذين سعوا لاختطاف ضحاياهم قبل أن يقتلوهم في لحظة ارتباك حسب التقارير الأمنية، وفي سنة 2008 نفذ "أبو عبيدة البصري" هجوما انتحاريا قرب السفارة الفرنسية دون أن يتم تصوير ذلك، ومرد عياب المصور عن تلك العملية أن "الانتحاري" جاء أصلا من شمال مالي لتنفيذ مهمة غير تلك التي قام بها، يعتقد أنها تتعلق بالمشاركة في احتجاز رهائن غربيين في المركز الثقافي الفرنسي قرب السفارة لمقايضتهم بسجناء التنظيم في نواكشوط، لكن اعتقال عناصر التحضير لتلك العملية أربك "الانتحاري" وقطع صلته بقيادته، فكان عليه أن يتحرك بمفرده قنفذ هجوما انتحاريا ضد حراس للسفارة الفرنسية التي كان استهداف بعض مصالحها أصلا هدف عودته من المعسكرات في شمال مالي.
غير أنه من الخطأ أن نعتقد أن التنظيم نفذ وعيده بالانتقام من عملية شمال مالي، وانتهت مواجهة الثأر معه، بل إن الأمر قد يكون بداية لمحاولات أخرى ربما تكون أكثر دموية وتخريبا إذا حالف الحظ منفذيها، ولم يفوق "الحراس" في التصدي لهم كما حصل مع الانتحاريين السابقين (انتحاري النعمة، وأبو عبيدة البصري) الذين لم يحالفهما الحظ في "الإثخان في الأعداء" كما أرادا، فكانا وحدهما من قتل في هجوميهما، وهنا في قابل الأيام تتجلى أهمية مؤازرة الحلول الأمنية والعسكرية، بحلول أخرى أكثر نعومة، وأقدر على التأثير في العقول من قدرة الرصاص على التأثير في الأجساد، ذلك ما سنتطرق له في مواضيع لاحقة بإذن الله.
محمد محمود أبو المعالي
 |
تاريخ الإضافة: 29-08-2010 03:12:34 |
القراءة رقم : 5001 |