مدينة القيروان، أو "رابعة الثلاث"، كما يسميها التونسيون ومؤرخو شمال إفريقيا، فهي بالنسبة لهم تأتي من حيث المكانة الدينية والروحية في المرتبة الرابعة، بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة، والقدس الشريف، وهي أول مركز إسلامي في شمال إفريقا، يدين لها كل سكان الشمال الإفريقي وغرب القارة السمراء بإسلامهم، فمنها انطلق المد الإسلامي يخترق أدغال إفريقيا، وفيها أقيم أشهر مركز علمي إسلامي في إفريقيا.
أسسها القائد الإسلامي الكبير عقبة بن نافع الفهري سنة 670 للميلاد، وبها ضريح الصحابي الجليل "أبو زمعة البلوي" صاحب رسول الله صلى الله عيله وسلم، والذي أدركته المنون وهو غاز في سبيل الله مجاهدا رافعا راية التوحيد، سنة 43 للهجرة في خلافة ثالث الراشدين ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكـانقد دخل إفريقيا في جيش معاوية بن حـديج، بعد أن شهد فتحمصر مع عمرو بن العاص،وتوفي أبو زمعة البلوي في بلدة "جلولة" القريبة من القيروان، ونقل جثامنه الطاهر إلى القيروان ودفن بها، وما يزال مقامه حتى الآن مزارا تأوي إليه افئدة الكثيرين، ويقول محدثنا نقلا عن ثقات المؤرخين، إن أبا زمعة دفن ومعه شعرات من رأس النبي صلى الله عليه وسلم، كان قد اصطحبها معه في رحلته الجهادية، عندما غادر المدينة المنورة.
دخلنا إلى وسط المدينة أُصيلالا، ونحن سياح ومستكشفون مستطلعون، لكن عظمة التاريخ وهيبة المكان أنستنا التنزه والراحة والاستجمام، وحملتنا على فلك التاريخ عابرة بنا قرونا غابرة، إلى حقبة شهد فيها هذا المكان إقامة صرح إسلامي شامخ، وقد ساعدنا مرافقنا نور الدين بدقة معلوماته، على الجولة في خوالي تلك القرون وأيامها المشهودة، فقد كان يقف عند كل ركن وزاوية في تلك المدينة، شارحا ومعلقا ومستفيضا في تفاصيل دقيقة، تجعلك تعيش تاريخ المدينة في تلك اللحظات الرائعة.
في حضرة أبي زمعة البلوي
وقفت وصحبتي من الظرفاء واللطفاء، أمام ضريح أبي زمعة البلوي، فحلقت بي الذاكرة إلى قرون غابرة، حين وصل هؤلاء من مشارق الأرض يعتلون صهوات عتاق الخيل، فاتحين الأمصار وناشرين دين التوحيد، فدكوا بسنابك الصافنات الجياد معاقل الشرك والوثنية والبدائية، وقفت بالضريح ونفسي تخاطب من وريت رفاته الثري بتلك البقعة، فاقشعرت الأبدان لعظمة المكان وهيبة الرجل، فأخرست الألسن وفاضت الدموع، ولم أستطع أن أنبس ببنت شفة في تلك الحضرة المهيبة، إلا بعبارة واحدة "جزاكم الله عنا معشر الفاتحين خيرا".
المالكية.. وتحية المسجد
ولما أفضنا من مقام البلوي المهيب، وأدلفنا إلى داخل مسجد عقبة بن نافع، تذكرت أن للتاريخ وقفات وحكايات مع هذا الفاتح العظيم، ولست أدرى كيف قفزت إلى ذاكرتي حكاية المؤرخين عن أول عمران في هذه البقعة، وخطاب عقبة بن نافع للسباع والهوام، آمرا لهم بالخروج منها، فقالتا أتينا طائعين، وفي خضم الذكريات المتلاطمة كموج المحيط يوم وقف على شاطئه بن نافع الفهري وقال قولته الخالدة "اللهم اشهد أني بلّغت المجهود، ولولا هذا البحر لمضيت في البلاد أقاتل من كفر بك حتى لا يعبد أحد من دونك"، بل كانت دعوته المستجابة ترافق ذاكرتي وكيف أن الله حقق له ما أراد، يوم أن جمع أصحابه من الفاتحين ورجال عسكره، ودار بهم حول المدينة بعد أن انتهى من بنائها، وأقبل إلى ربه متضرعا آئبا نائبا، داعيا لتلك المدينة الخالدة: "اللهم املأها علما وفقها ، وأعمرها بالمطيعين والعابدين، واجعلها عزا لدينك وذلا لمن كفر بك، وأعز بها الإسلام".
وقد اشتهرت القيروان في الشمال الإفريقي والمغرب العربي بأنها أم مدرسة المذهب المالكي في هذه الربوع، ففيها نما وترعرع، وصال فطاحلة المذهب وجالوا واجتهدوا، فأغنوا تاريخ الأمة وأثروا مكتباتها بمتون وشروح أحاطت بمذهب أهل المدينة، وفقه إمام دار الهجرة، شارده ووارده، وبداخل المسجد احتدم النقاش بين رفاق الرحلة، هل نحيي المسجد بركعتين ونحن قبل مغيب الشمس، أم لا.. تجنبت النقاش، لكنني لم أتمالك نفسي ووجدتني أخاطبهم قائلا:.. أنتم في معقل المذهب المالكي... فمن هنا جاءكم الدين الحنيف بفرائضه وسننه ومندوباته، فلا اقل من أن تحترموا لعلماء المكان.. رأيهم واجتهادهم.. وذلك أضعف الإيمان"
لقد أحسست ساعتها أنني أجلس في حضرة الإمام سحنون بن سعيد صاحب أبي القاسم - تلميذ الإمام مالك -.. وفي معقل ابن رشيق القيرواني، وقاضي إفريقية أسد بن الفرات، وابن شرف، وبن الجزار.. والمعز بن باديس. وبن إبي زيد القيرواني، وعبد الرحمن بن رافع التنوخي.. وغيرهم.
ففي القيروان تاريخ حافل بالعلم وأسبابه، وفي مقدمة تلك الأسباب المكتبات العامة والزوايا التي اشتهرت بها القيروان على مدى تاريخها الطويل.. ومن أشهرها بيت الحكمة الذي أسسه إبراهيم الثاني الأغلبي بالقيروان على غرار بيت الحكمة الذي أسسها هارون الرشيد في بغداد، وقد استقدم الأغلبي للقيروان علماء الفلك والطب والرياضيات من كل اصقاع الدنيا، ومن بيت الحكمة هذا انطلقت مدرسة الطب القيروانية المشهورة في المغرب العربي،
وكما كانت القيروان مدينة الفاتحين والعلماء والفقهاء، فقد كانت ايضا مدينة المآذن والمساجد، حيث يوجد بالمدينة العتيقة خمسونمسجدًا من أشهرها الجامع الكبير الذي شيده عقبة بن نافع، وجامع الابواب الثلاثة.
"فسقيات الأغالبة".. وبئر "بروطة"
خرجنا من الجامع، واتجهنا صوب إرث تاريخي آخر له مكانته وحكايته في كتب التاريخ، إلى "بئر بروطة"، وعند مدخلها حكى نور الدين حكاية البئر العجيبة، قائلا إن المؤرخين يؤكدون أن تسمية هذا البئر تعود لكلبة كانت مع قافلة تمر بالمنطقة، وكانوا على وشك أن يفنوا عن بكرة أبيهم عطشا، وفجأة شاهدوا الكلبة "بروطة" وهي تحفر في الأرض، وتستخرج ترابا مبللا، فأدركوا أن الماء غير بعيد، وحفروا البئر هنالك، ومنذ ذلك التاريخ أصبحت البئر تحمل اسم الكلبة المستكشفة "بروطة"، وتعتبر هذه البئر من أهــم وأقدمالآبار بالقيــروان، وهي بئر واسعة بها سفرة من الرخام، عليها جمل ربط في الساقية ويدور بإشارات وإيمئات من الساقي جالبا الماء.
شربنا من البئر وغادرناها باتجاه، أحواض مائية ضخمة تعرف لدى القيروانيين باسم "فسقيات الأغالبة"، وتوصف بأنها من أشهر وأضخم المشاريع المائية في التاريخ الإسلامي، وهي عبارة عن حوضين أحدهما وهو الأصغر دائري الشكل، يبلغ قطره 34م، ويتسع لحوالي 4000 متر مكعب، وبه دعائم داخلية وخارجية، وتصل هذا الحوض قناة مائية بحوض آخر ضخم دائري الشكل، يبلغ قطره 128م، وبعمق يقارب 5م، وبه 64 دعامة داخلية، وضعفها من الدعامات الخارجية، وتبلغ طاقته الاستيعابية حوالي 58 ألف متر مكعب، ويستقبل الحوضان الماء عبر قناة طويلة تمتد من الجبال المجاورة حيث تتجمع مياه الأمطار، فيتم تخزينها لسقي الحدائق والجنينات التي كانت تزخر بها مدينة القيروان.
ويعود تاريخ إقامة هذه الأحوض الأعجوبة إلى سنة 248 هـ، على يد الملك أحمد بن محمد بن الأغلب، ويقول المؤرخون إن العمل فيها استغرق سنتين كاملتين.
السجاد و"المقروض".. تراث ومنافع للناس
والزائر للقيروان لا يمكن أن يغادرها قبل أن يمر بمحلات سجادها الفاخر و"مقروضها" اللذيذ، لذلك كان علينا أن نمر بمحلات عرض وبيع السجاد القيرواني التقليدي، فاشترى منها البعض، واكتفى البعض الآخر بالتفرج والافتتان بأنماط الزخرفة الإسلامية الرائعة، ثم جاء الدور على "المقروض" وما أدراك ما "المقروض"، إنها حلويات تقليدية اشتهرت بها مدينة القيروان على مر العصور، يتم تصنيعها من مسحوق الشعير والتمر، أبلغنا المرافق أن بإمكان أي منا أن يتذوق من تلك الأصناف المعروضة، لكنها في الواقع كانت شراكا لا فكاك منه، فالمتذوق لطعم "المقروض" لا منجاة له من شرائه، لأن الطعم الذيذ والنكهة الطيبة، لا تترك للزائر فرصة لتفادي ما ليس منه بد، فاشترينا جميعا كل حسب ذوقه وجيبه.
لوعة الفراق
وحين أزفت ساعة الرحيل عن مدينة التاريخ والعلم والأدب، نادت السيدة الفاضلة نزيهة مرافقة الوفد، أن حي على الرحيل، وصدر الأمر "السامي" بالتوجه إلى الحافلة، فوقت الزيارة قد انتهى، ولبقية اليوم والليلة محطاتها في "سوسة"، و"مطعم الأمراء" مع وجبات "المزة" و"الشاي" التونسي، والصوت الشجي، فودعنا القيروان والحسرة تملأ قلوبنا على مغادرة تلك البقعة الطاهرة المباركة، لكن ظرافة وسماحة أخلاق رفيق الرحلة الأستاذ محمد فاضل المقراني مدير الخطوط التونسية بنواكشوط، لطفت الجو وأنزلت علينا سكينة أنستنا لوعة الفراق، فتوجهنا ناحية "سوسة" وعيوننا خلفنا ترقب اختفاء المآذن عنا، ونحن نبتعد عنها رويدا رويدا.. ونردد مع شاعر القيروان الكبير الحصري قوله، وهو يبكي تلك المدينة العتيقة في إحدى مآسيها.
أترى اللّيالي بعدماصَنَعَتْ بِنا **** تَقْضِي لـنا بتواصلٍ وتدَانِ
وتعيدُ أرض َ القيروانِكعَهدهِا **** فيما مضى منْ سالفِ الأزمانِ
أمْسَتْ وقد لَعِبَ الزّمانُبأهلِها **** وتقطعْت ﺒهم عُرى الأقرانِ
فتفرَّقُوا أيْـدي سبأ وتشتّتوا **** بَعدَ اجتماعِهِم على الأوطانِ